نيللي حنا والتاريخ الاجتماعي لحداثة مصر المبكرة


Artisan Entrepreneurs in Cairo and Early-Modern Capitalism (1600 ...
 
أسامة دياب 

قامت المؤرخة المصرية نيللي حنا بسد فجوة كبيرة في التاريخ المصري ليس فقط عن طريق توثيق حقبة لا نعلم الكثير عنها كالحقبة السابقة على قدوم الحملة الفرنسية الممتدة من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر في مجموعة من الكتب الهامة، ولكن أيضًا عن طريق تبني نهج التأريخ الاجتماعي وليس السياسي أو العسكري لتلك الفترة. تتناول حنا هذه الحقبة من زاوية علاقة الحرفيين المصريين بالتطورات التاريخية الهامة في حقبة الرأسمالية التجارية السابقة على (وفي بعض الروايات المؤدية إلى) صعود الرأسمالية الصناعية.

كان الإنتاج غير الزراعي في حقبة الرأسمالية التجارية يعتمد أغلبه على الحرفيين في الورش، قبل ظهور المحرك البخاري والمصنع الحديث وفصل أدوات الإنتاج عن المنتجين في الظاهرة التي من الممكن وصفها بتحويل طبقة الحرفيين إلى بروليتاريا proletarianization of artisans.

تهتم حنا كثيرًا بهذا المنظور وتدرس شكل التجارة والصناعات الحرفية وتحديدًا الغزل والنسيج في تلك الحقبة، لما كان لتلك الصناعة من أهمية في عصور الحداثة المبكرة بسبب كونها الصناعة الرئيسية التي دفعت لقيام الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا.

تتحدى حنا الرؤية المركزية الأوروبية للتطور الرأسمالي والتي دائما ما تنظر بحكمة الأثر الرجعي بأن الرأسمالية ومن ثم الحداثة نشأت في أوروبا ثم انتشرت إلى بقية العالم من هناك، لكن تجادل حنا بأن جذور التحديث المصري في القرن التاسع عشر وتحديدًا في فترة حكم محمد على لم تظهر على الجانب الآخر من المتوسط لكن في مصر نفسها. 

ترى الرؤية المركزية الأوروبية أن هناك نسخة واحدة من الحداثة ظهرت في أوروبا ثم تم نشرها بواسطة الاستعمار والتوسع الرأسمالي الأوروبي، ولكن تتبنى حنا نظرية الحداثة المتعددة القائلة بأن أنماط مختلفة من الحداثة حدثت في أماكن متفرقة من العالم في نفس الوقت.

تقول حنا على سبيل المثال في كتابها  Artisan Entrepreneurs in Cairo and Early-Modern Capitalism أن الهند وجنوب شرق آسيا في الفترة السابقة على الثورة الصناعية كانا مركزان مهمان للنمو والعلاقات الاقتصادية والتحالفات السياسية المركبة والمعقدة على عكس تصويرهم كمجتمعات "تقليدية" في الرواية التاريخية الأوروبية (ص ٢٤).

كانت مثلًا الهند تعتبر "مصنع العالم" فيما يتعلق بصناعة الغزل والنسيج وكانت تصدر ملايين الأمتار من المنسوجات إلى أماكن شديدة البعد كغرب أوروبا وحتى الأمريكتين.

تشير حنا (ص ٣٠-٣١) أيضًا إلى ظهور  ما تسميه ب"الرأسمالية الحرفية" في القرنين السابع عشر والثامن عشر في القاهرة ليس فقط على مستوى الحرفي الفردي ولكن أيضًا على مستوى طوائف الحرفيين، التي أثبتت حنا في تحقيقاتها التاريخية أنهم مارسوا قدر من التنظيم لماليتهم على أسس رأسمالية عن طريق التوسع الرأسمالي الكبير وإنشاء صناديق مالية للروابط لمجابهة التدخلات الزائدة من السلطات السياسية من جانب والتهديدات المتعلقة بالتوسع الأوروبي من جانب آخر. حدث هذا بشكل خاص في طوائف القطانين التي كانت تعتبر من ضمن الطوائف الأغنى في هذا الوقت بسبب تشكيل المنسوجات لخُمِس الصادرات المصرية في بدايات القرن الثامن عشر. تنوعت وجهات تلك الصادرات من شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء والشام والأناضول، وفي القرن الثامن عشر أصبحت فرنسا واحدة من أهم وجهات المنسوجات القاهرية (ص٤٤-٤٥). 

يصعب جدًا هنا القول أن أساليب هذه الإدارة العقلانية والرأسمالية المبكرة للعمل قد جاءت لمصر من أوروبا. تقول حنا أيضًا أن النساء لعبت دورًا هامًا في صناعة النسيج في هذه الحقبة عن طريق الغزل الذي كان من مهام النساء، قبل أن يقوم الرجال بنسجه (ص ٦٤).

يذهب الكتاب أيضًا إلى أن التجار في هذه الفترة تجاوزوا دورهم التجاري البحت وقاموا أيضًا بدور رأسمالي عن طريق اتفاقيات بين التجار والحرفيين يدفع وفقها التجار مبالغ مقدمة لاستلام منسوجات في المستقبل. هذا  النوع من الترتيب الذي قام فيه التاجر بتمويل إنتاج المنسوجات (وليس فقط شرائها بعد إنتاجها) أعطاه أسعارًا أقل للسلع التي اعتاد بيعها في الأسواق الدولية (ص ٩٣).  

يعني هذا أن "التاجر" لم يقم فقط بدوره كتاجر لكن قام أيضًا بأدوار الرأسمالي الصناعي والتمويلي في نفس الوقت، فتحولت علاقة التاجر بالحرفيين لما يشبه علاقة صاحب العمل بالعامل وفي نفس الوقت الدائن بالمدين، بالإضافة للعلاقة العادية التي تجمع الحرفي بالتاجر.

إزداد حجم صادرات المنسوجات المصرية بشكل كبير في القرن الثامن عشر، وتقول نيللي حنا أن وفقًا لدراسة المؤرخ أندريه رايموند للأرشيف الفرنسي في مارسيليا، زادت الصادرات المصرية من المنسوجات إلى فرنسا أربعة أضعاف خلال فترة قصيرة تتراوح ما بين عقدين أو ثلاثة عقود، ووصلت في بعض السنوات قيمة الصادرات لمليون جنيه فرنسي وهو ما يعادل نصف الصادرات المصرية إلى فرنسا في ذلك الوقت. تعادل القوة الشرائية لهذا المبلغ مئات الملايين من الجنيهات المصرية اليوم، وطبعًا ستزيد القيمة النسبية لهذا المبلغ عن ذلك كثيرًا إذا أخذنا في الاعتبار حجم الاقتصادات والسكان وقتها مقارنة باليوم.

وكان الطلب أيضًا كبير في عدد من أسواق شمال أفريقيا ومواني البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط.

مع هذا التوسع الكبير في صناعة النسيج، زادت محاولات إحكام السيطرة السياسية على الطوائف المرتبطة بها لدرجة أن أعضاء الطبقة المملوكية حاولوا نصب أنفسهم كشيوخ لتلك الطوائف، ونجحوا في الكثير من الأحيان تحديدًا في طوائف الحياكين والخياطين والقزازين (ص ١٤٩).

تقول حنا أن هذا التهديد أدى لمستويات عالية من التنظيم والتماسك من قبل الطوائف في مواجهة تلك المخاطر. فعلى سبيل المثال، في قرار للطائفة في عام ١٧٨٠، قرر أعضاء الطائفة الاجتماع في مكان واحد للعمل والإنتاج وأن يتقاسم الأعضاء الأرباح بنسب محددة. تقول حنا أن هذا الترتيب كان غير معتاد في هذا الوقت بالنسبة للحرفيين، وتظن أن هذه الممارسة كانت بهدف زيادة الإنتاجية والكفاءة والتأكد من معايير ووحدة الجودة.

قد يكون هذا التنظيم الجديد للعمل رد فعل على  الإبتكارات التقنية الكثيرة التي شهدتها أوروبا في صناعة النسيج في القرن السابع عشر والتي أفضت إلى زيادات كبيرة في الإنتاجية  وتنوع أنواع الأقمشة وانخفاض سعرها. يجادل الكتاب أن نمط الابتكار وسط الحرفيين في القاهرة لم يكن في مجال الابتكار التقني لكن في مجال تنظيم العمل بهدف الوصول لنفس النتائج (زيادة الإنتاجية والتنوع وخفض التكلفة).

دعمت طوائف الحرفيين (بالذات تلك المرتبطة بالغزل والنسيج)  وصول محمد على للحكم وعاونته على إدارة صناعة الغزل والنسيج الجديدة التي كان يؤسس لها، وأيضا دعمت الثورة العرابية التي عادة ما ينظر لها على إنها أول تعبير وطني حقيقي مُسيس في مصر ضد توغل المنتجات والمصالح الأوروبية، وتعتبر هي التأسيس الحقيقي للدولة الوطنية في مصر. وفقًا لحنا لم يكن من الممكن حدوث ذلك بدون ابتكار أنواع التنظيم التي مارستها تلك الطوائف في القرن الثامن عشر.

اتسمت أيضًا تلك الطوائف بقدر من المرونة التنظيمية، فكنتيجة لعدم القدرة على منافسة المنتجات الأوروبية في المناطق الحضرية، اتجه الإنتاج المحلي خارج القاهرة إلى حد كبير وركز أكثر على الثياب التقليدية تحديدًا في الريف والمناطق الأفقر والتي لم تتأثر بشكل كبير بالمنتجات والثياب الأوروبية. بالطبع حدوث هذا كان فقط ممكنًا عن طريق خفض الجودة والسعر وهامش الربح مما أثر على ربحية وحيوية وتوسع هذه الصناعة لكنه لم يقضي عليها تمامًا إلى يومنا هذا، واستطاعت الصناعة البقاء برغم كل تحديات العولمة والاستعمار والتجارة الحرة والتطور التكنولوجي بسبب المستوى العالي من التنظيم الذي بدأ قبل عصر الحداثة/الاستعمار الأوروبي/الثورة الصناعية، وفقًا لطرح حنا.

يرتبط هذا بالطبع بازدياد الفجوة التنموية بين أوروبا وبقية العالم بشكل عام ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فبقي في الجنوب صناعات أو أجزاء من صناعات (كصناعة الثياب الريفية التقليدية) تحتوي على هامش ربح ومكون تكنولوجي منخفض مما أعاق عملية التحديث والتنمية على مدار القرنين السابقين. فمن جانب بدأت الأسس التي بنيت عليها مصر الحديثة أبكر مما نعتقد كما تذهب حنا، ولكن من جانب آخر  بدأت الحداثة غير المكتملة في مصر أيضًا مبكرًا عندما استحدث الحرفيين المصريين وسائل لزيادة الإنتاجية بواسطة أنواع جديدة من تنظيم العمل بدلًا من محاولة زيادة الإنتاجية عن طريق الابتكار التقني كما حدث في أوروبا، وبدأ من حينها دائرة التطور التكنولوجي "الحميدة" هناك و"المفرغة" في مصر. 

لم تتناول حنا أسباب هذا الاختيار الحيوي لكنه يظل سؤالًا غاية في الأهمية وفي حاجة إلى تحقيق تاريخي خاصة وأن أغلب التطورات التقنية في صناعة النسيج في العصور الوسطى كانت تحدث خارج أوروبا في الهند والصين والعالم الإسلامي، حتى قيام ويليام لي باختراع ألة الحياكة الميكانيكية عام ١٥٨٩، وهو التاريخ الذي شكل النقطة الفاصلة التي تحولت عندها دفة التطور التقني في صناعة النسيج إلى أوروبا.

تعليقات

  1. دراسات و بحوث د نيللي حنا دقيقة و مؤثرة و بتطرح ابعتد جديدة تستحق القراءة و الاطلاع و الاستمرار عليها

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"