التحول الرأسمالي الطرفي وإعلانات رمضان


قمت مؤخرًا بتجربة غير علمية بالمرة، وهو مقارنة الإعلانات التليفزيونية في التسعينات بالموسم الرمضاني الحالي لمحاولة فهم شيئًا ما عن خريطة وأنماط التراكم وشكل الاقتصاد الإنتاجي بعيدًا عن إحصاءات الاقتصاد الكلي الرتيبة. 
لصعوبة العودة للبث التليفزيوني الحي في التسعينات قررت الاعتماد على أول فيديو على يوتيوب يقوم بتجميع قدر لا بأس به من أهم إعلانات التسعينات، ومشاهدة ثلاث فقرات إعلانية على قناة سي بي سي في هذا الموسم الرمضاني، وفي الجدول أدناه قائمة بالإعلانات التي ظهرت في الفقرتين. 

اعلانات ٢٠٢١

اعلانات التسعينات

أورانج -  زهرة العلمين الجديدة - اتصالات - وي - يونيون آير - إيتوال - فودافون - أهل مصر - تورنادو  العربي -  ماونتن فيو - كوكاكولا -  طلعت مصطفى - مكرونة لمتنا - أقراص ريد للناموس - مؤسسة نبض الحياة - بنك مصر - بنك الطعام المصري

عبد الرحيم عمرو- كوفرتينا -لبان السحري

- كيتو - لومبو - سيكا - شاي البراد الأزرق

- فليت - مرقة فاين فودز -  تيم - زيست - شوكولاتة موني - جيلي فاين فودز - ايس كريم كيمو -  قبنوري - موس لورد - حفاضات كدليز - صابون شيك - مسحوق غسيل أومو - كحك بسكو مصر - سمنة الهانم - شاي العروسة - كادبوري - فرج الله



وبما إن التجربة غير علمية بالمرة فيجب الإشارة هنا إلى أهم أوجه قصورها:

١- لا تحتاج كل الأنشطة للدعاية التليفزيونية، فبالتالي لن تكون هذه الأنشطة ممثلة في التجربة بغض النظر عن التغير في حجمها وأهميتها. أمثلة على ذلك هي المواد الأولية مثل النفط والغاز والمنتجات الزراعية، والسلع الوسيطة ومدخلات الإنتاج التي يكون عملائها فئة صغيرة يمكن استهدافهم بأشكال أخرى.

٢- عدم تمثيل الخدمات التي لا يفترض تسليعها بشكل كامل وخضوعها لمنطق الربح مثل المستشفيات والمدارس الحكومية ووسائل النقل العام، إلخ. أو الخدمات المحتكرة مثل مترو الأنفاق والكهرباء، فبالرغم من الأهمية الاقتصادية لتلك القطاعات إلا أن التراكم الخاص فيها غالبا ما يكون ما بين معدوم أو محدود.

٣- عدم تمثيل الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي لا تقدر على تكلفة الإعلان التليفزيوني، لكن مثلها مثل الخدمات العامة التراكم فيها محدود بالتعريف بسبب صغر حجمها.

فبالتالي باستثناء قطاع المواد الأولية والسلع الوسيطة ومدخلات الإنتاج، يمكن استخلاص بعض الملاحظات عن التراكم الرأسمالي الكبير في الحقبتين:

١- في الحقبتين كان نمط الإنتاج رأسمالي طرفي أو نصف طرفي، ويعبر عن التحول في أنماط الإنتاج الطرفية في الثلاثة عقود الأخيرة. ففي التسعينات، كانت كل السلع-بلا استثناء واحد-سلع مُصَنَعة "خفيفة" ومنخفضة القيمة المضافة، وأغلبها سلع استهلاكية مثل الصابون والغذاء المصنع، مع وجود تمثيل مشرف للسلع المعمرة متمثلًا في عبد الرحيم عمرو وقبنوري. باختصار لو كنت رجل أعمال كبير في تلك الفترة فاحتمالية أن يكون نشاطك في التصنيع الغذائي الخفيف (امتلاك مصنع شاي أو حلويات)، أو أدوات التنظيف (الصابون والمساحيق وأمواس الحلاقة) أو في صناعة الآثاث كان مرتفع جدًا. وفقًا لنظرية التبعية، التراكم في هذه الصناعات عادة ما يكون محدود نسبيًا بسبب التنافسية العالية وتشبع السوق بالمنتجات "الخفيفة"، وبالتالي انخفاض هامش الربح، ولذلك في أحيان كثيرة تترك اقتصاديات المركز الرأسمالي تلك الأنشطة غير المربحة للاقتصاديات الطرفية.

٢- مع المزيد من تشبع السوق والإنتاج الزائد والمنافسة، تصبح تلك الأنشطة غير مربحة على الإطلاق بالذات للاعبين الجدد، ولا تشجع على توسع نشاط اللاعبين القدامى، فبالتالي يحتاج فائض رأس المال المتراكم إلى منافذ جديدة بعيدة عن التصنيع الاستهلاكي الخفيف والتنافسي، وبعيدة أيضًا عن التحول إلى أنشطة تصنيعية أو خدمية عالية القيمة المضافة لن تكون بمقدورها منافسة المراكز الرأسمالية فيها خاصة في ظل نظام عالمي يعلي من قيمة التجارة الحرة  (مثال: الصناعات التكنولوجية المتطورة، والبرمجيات، والبحوث الدوائية، إلخ). في الكثير من الأحيان تحل الاقتصاديات الطرفية أزمة التراكم الزائد عن طريق التوجه نحو السلع غير القابلة للتداول التي يصعب استيرادها (مثل الوجبات الجاهزة والعقارات) والأنشطة المالية، وهي بالفعل الأنشطة التي شهدت إزدهارًا كبيرًا منذ نهاية التسعينات وحتى الآن.

٣- تعبر قائمة إعلانات ٢٠٢١ عن هذا التحول، فهناك تمثيل كبير للأنشطة العقارية في شكل إعلانات للمجتمعات السكنية المسيجة، وهناك تمثيل أيضًا للقطاع المالي، بالإضافة للسيطرة الكبيرة لقطاع الاتصالات على الإعلانات حاليًا.

٤- صناعات التسعينات برغم كونها صناعات لا تحدث تنمية، لكنها كانت صناعات كثيفة العمالة وكانت دعاياتها تستهدف الاستهلاك الجماهيري، فأغلب منتجاتها كانت في متناول أيدي أغلب الناس. أما القطاعات الاقتصادية التي صعدت منذ ذلك الوقت (باستثناء ربما قطاع الاتصالات) فتستهدف شريحة معينة ثرية بخدمات بنكية وعقارات وفعل الخير. قد يكون هذا تعبير عن ظاهرتين مترابطتين أولهما زيادة اللامساواة المثبتة إحصائيًا بحيث أن أغلب الفائض الاقتصادي أصبح أكثر تركيزًا الآن في منطقة الدخول العليا والثروات الكبيرة، وثانيًا، كتعبير عن أزمة العمل الهيكلية الناتجة عن التحول من الأنشطة الإنتاجية كثيفة العمل إلى أنشطة غير إنتاجية كثيفة رأس المال--فضلًا عن زيادة الإنتاجية التي تقلل الحاجة إلى اليد العاملة والاضطرابات السياسية ومؤخرًا أزمة الصحة العامة المرتبطة بجائحة كورونا (أنظر الشكل أدناه عن معدلات التشغيل في مصر)، والتي قللت من الفائض الممكن استخلاصه من شرائح الدخل والثروة الأدنى.


٥- هناك أيضًا سيطرة كبيرة لإعلانات التبرعات على خريطة الإعلانات الحالية، والتي من المؤكد تستهدف أيضًا شرائح الدخل والثروة الأعلى، وغالبا ما تعبر أيضًا عن ضعف الاستثمار العام في القطاعات الصحية والاجتماعية بشكل عام، وهو الضعف الذي يجب سده عن طريق الصدقة الطوعية بسبب ضعف الحصيلة الضريبية الناتجة عن حل ضرائب الاستهلاك محل  ضرائب الدخل والأرباح، فلم يزد الإنتاج والنشاط الاقتصادي بشكل كبير نتيجة لتلك الحوافز الضريبية للشركات كنتيجة لمشاكل هيكلية غير ضريبية تطرقت لها أعلاه، فبالتالي لم تزد الحصيلة الضريبية من الشركات كما كان يذهب أنصار خفض معدلات الضريبة على الأرباح، والذين جادلوا بأن تخفيض ضرائب أرباح الشركات ستؤدي إلى زيادة النشاط الاقتصادي وبالتالي زيادة الحصيلة الضريبية لمجمل الشركات. علاوة على ذلك، حال ضعف الاستهلاك الجماهيري ومحدودية السوق المحلي دون استحداث زيادات كبيرة في حصيلة ضرائب الاستهلاك برغم زيادة سعر الضريبة من ١٠% إلى ١٤%.
 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"