حديث مؤجل عن التعويم: سعر الدولار كنتيجة للتضخم وليس سببًا له


زيادة المعروض النقدي في مصر (M2) في العشر سنوات الأخيرة

زيادة المعروض النقدي في مصر (M2) في العشر سنوات الأخيرة



أدى تثبيت سعر الجنيه المصري مقارنة بالدولار في عام ٢٠١٦ إلى ظهور سوق سوداء موازية أكثر تعبيرًا عن قيمة الدولار الحقيقية في مقابل الجنيه، واتسعت الفجوة بين سعر الصرف الرسمي المُثَبَت في البنوك وسعر السوق السوداء طوال عام ٢٠١٦ حتى تم تخفيض قيمة الجنيه في شهر نوفمبر من نفس العام. كان قرار البنك المركزي المصري بتخفيض قيمة  الجنيه موضع جدل، ليس أقله بسبب التضخم الذي يُعتقد أنه تسبب فيه. 


لكن خلافا للاعتقاد الشائع، كان الارتفاع الكبير للدولار مقابل الجنيه أحد نتائج ارتفاع التضخم، وليس سببًا له.


السبب الأساسي للتضخم هو زيادة المعروض النقدي: فقد زاد حجم المتداول من الجنيه المصري بمعدلات غير مسبوقة.


يجادل اقتصاديو جانب الطلب بأن تعزيز النشاط الاقتصادي يتم بشكل أفضل من خلال تعزيز القدرة الشرائية للطبقات الدنيا والمتوسطة، لأنهم الفئات الاجتماعية التي تنفق جزءًا كبيرًا من دخلها على الاستهلاك الفوري في الاقتصاد المحلي، بدلاً من توفيره لاستخدامه لاحقًا.


وبالتالي، في أوقات الركود أو التباطؤ الاقتصادي، قد تكون الزيادة المحسوبة في المعروض النقدي مفيدة لتعزيز النشاط الاقتصادي حتى لو كان ذلك يعني زيادة في الأسعار أيضًا، لكن عندما تخرج طباعة النقود عن السيطرة، يمكن أن يؤدي هذا إلى فقدان الثقة في الاقتصاد ويكون له تأثير كبير على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسكان.


تتحدد قيمة النقد بالنسبة لكمية النقد المتداول. بكل بساطة، امتلاك مليون جنيه في اقتصاد يحتوي على مليار جنيه يجعلك أكثر ثراءًا من امتلاك مليون جنيه في اقتصاد يحتوي على ملياري جنيه - باعتبار ثبات كمية الإنتاج ومعدل دوران النقود. معدل دوران النقود هو العامل الثاني المحدد لمعدلات التضخم مع المعروض النقدي، ويعني ببساطة سرعة انتقال النقود من يد إلى أخرى خلال فترة من الزمن. الورقة فئة ال ٢٠٠ جنيه من الممكن أن تبقى خاملة في خزينة شركة ما لمدة شهور ومن الممكن أن تغير يد ٥ مرات في خلال أسبوع فتكون مسئولة عن خلق طلب على منتجات بقيمة ١٠٠٠ جنيه.


ارتفع المعروض النقدي في مصر من ١،٠٢ تريليون جنيه في أغسطس ٢٠١١ إلى ٢،٧ تريليون جنيه في يناير ٢٠١٧ وهذا يعني أن كمية الأموال في الاقتصاد المصري قد زادت بنحو ١٦٥ في المائة خلال ما يزيد قليلاً على خمس سنوات سابقة على التعويم، بينما نما الإنتاج بنسبة ١٧ في المائة فقط خلال نفس الفترة. لذلك، من بين ال ١٦٥ في المائة زيادة في المعروض النقدي، فقط ١٧ في المائة لم يكن لها تأثير تضخمي، باعتبار ثبات معدل دوران النقود. جدير بالذكر أن المعروض النقدي من الجنيه المصري الآن حوالي ٤.٥ تريليون جنيه ويتوقع أن يزيد بشكل كبير في الفترة القادمة بسبب أزمة كورونا.


وبعبارة أخرى، "طَبَع" البنك المركزي المصري كمية جنيهات في خمس سنوات تزيد عن كل المبالغ النقدية التي كانت موجودة بالفعل قبل تلك الفترة.


وفقًا لمعدلات التضخم الرسمية، زادت الأسعار بأكثر من الضعف خلال نفس الفترة، وهو ما يتماشى مع التقدير أعلاه لمبلغ الأموال الجديدة التي لا توازيها زيادة في الناتج المحلي الإجمالي. هذا منطقي تمامًا: إذا تضاعف حجم الأموال المتداولة دون زيادة مقابلة في الإنتاج، فمن الطبيعي أن تتضاعف الأسعار أيضًا، نظرًا لعدم حدوث تغيير كبير في معدل دوران النقود.


إذا نظرنا إلى الدولار كمنتج له سعر مقابل الجنيه، فإن المعروض العالمي من الدولار زاد خلال نفس الفترة الزمنية بنحو ٣٠ في المائة فقط. بالطبع ما يقرر سعر الصرف هو حجم العملة الأجنبية في اقتصاد معين (وليس العالم بأسره) ، ولكن هذا - بقدر من التبسيط - يعني أن جزءًا من الزيادة الهائلة في سعر الدولار يمكن أن تعزى إلى زيادة في عرض الجنيه وبالتالي الطلب على الدولار، وليس فقط انخفاض عرض الدولار. بمعنى آخر، كان لدى مصر الكثير من الجنيهات الجديدة التي تطارد نفس المبلغ من الدولارات، وليس نفس العدد من الجنيهات التي تلاحق عدد أقل من الدولارات.


ارتفع سعر الدولار لأنه مثل أي منتج آخر لم يزداد عرضه بنفس معدل زيادة عرض الجنيه، ومعدلات زيادة سعر الدولار تتماشى تقريبًا مع معدلات التضخم العام ومعدلات زيادة المعروض النقدي لكنها لم تحدث بشكل تدريجي مثل بقية السلع بسبب تثبيت البنك المركزي لسعره. مرة أخرى، إن الزيادة غير المحسوبة في عرض النقود هي السبب الرئيسي الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار وليس نقص الدولار. يتحدى البحث الذي أجرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية فكرة أن انخفاض المعروض بالدولار أدى إلى هذه الزيادة الفلكية في سعر صرفها.


بعبارة أخرى الدولار لم يزد سعره بل سعر الجنيه المصري هو الذي انخفض، وسبب الزيادة المفاجئة والصادمة هو سياسة تثبيت سعر الصرف بشكل مصطنع لفترة طويلة كان يزيد فيها المعروض النقدي من الجنيه المصري زيادات مطردة، وفجأة رفعت الحكومة الحماية عن الجنيه فحدث ما حدث وزادت أسعار الواردات ومدخلات الإنتاج فأعطى انطباعًا خاطئًا بأن الصدمة كانت من جانب العرض. 


استخدم أنصار نظرية أن التضخم ناتج عن جانب العرض حجتهم للقول بأن زيادة أسعار الفائدة، وبالتالي الحد من السياسة النقدية التوسعية (ولا أقول الانكماشية)، لن تؤثر على معدلات التضخم، وبالتالي ستؤدي فقط لتباطؤ النشاط الاقتصادي بدون أن تسيطر على التضخم لأن رفع سعر الفائدة يؤثر فقط على التضخم الناتج عن جانب الطلب.


بغض النظر عن رأينا في سياسات البنك المركزي لكن من وجهة نظري أن رفع سعر الفائدة في هذه الفترة كان حتمي لأن مصر كانت تسير في اتجاه تضخم مفرط كالذي حدث في فنزويلا، وفعليًا لم تكن الزيادة متطرفة كما يظن البعض وظلت نسبة الفائدة الحقيقية سلبية (تكون نسب الفائدة سلبية عندما تكون أقل من معدلات التضخم) حتى في أعلى درجاتها. 


المشكلة إذن ليست في زيادة نسب الفائدة من أجل السيطرة على التضخم لكن في السياسات التي أدت لكون هذه الزيادة بهذا الشكل حتمية عن طريق سياسات نقدية غير محكومة، مصحوبة بتوسع مستمر ومطرد في المعروض النقدي ناتج بشكل رئيسي عن عجز هيكلي ومزمن في قدرة السياسات الضريبية على تمويل ما تحتاجه الحكومة من نفقات.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"