نيللي حنا ودحض نظرية "الرجال العظماء" في العلم


Ottoman Egypt and the Emergence of the Modern World: 1500-1800 by ...


أسامة دياب

ناقشت في تدوينة سابقة تحدي المؤرخة المصرية نيللي حنا لنظرية التحديث من أعلى التي عادة ما تَنسِب تأسيس مصر الحديثة لعصر وشخصية محمد علي. تذهب حنا إلى أن التحديث جذوره سابقة على هذا العهد وعلى عهد الحملة الفرنسية، فلا محمد علي ولا نابليون هم الذين أدخلوا مصر في منطق التطوير الحداثي بمفردهم، وهو النهج الذي يمكن اعتباره دحضًا لنظرية "الرجال العظماء" في التاريخ. تقوم حنا في نفس الوقت بتحدي نظرية التحديث من خارج، والتي تذهب أيضًا أن بدايات التحديث في مصر كانت بشكل حصري نتيجة لتبني النُهُج الأوروبية في الإدارة والإنتاج والتنظيم والتشريع، إلخ.


كان هذا محور كتاب "حرفيون مستثمرون: بواكير تطور الرأسمالية في مصر"، ولكن تستمر حنا في تحدي ثوابت نظراتنا عن التحديث في كتاب آخر وهو "مصر العثمانية والتحولات العالمية ١٥٠٠-١٨٠٠"، وتجادل أن الثورة العلمية لم تكن فقط نتاج عمل حفنة من "الرجال العظماء" في المجال العلمي، لكن المحرك الرئيسي لها كان الخبرات التجريبية والتطبيقية للحرفيين--الذين عادة ما ينظر لهم على أنهم المقابل الموضوعي للعالم الأكاديمي--ليس فقط في أوروبا لكن في الجنوب أيضًا.


تتحدى بذلك حنا تصوراتنا الأفقية والرأسية على حد سواء عن الكيفية التي حدثت بها الثورة العلمية، فلا هي حدثت بشكل رأسي من أعلى لأسفل عن طريق نخبة علمية أنارت الطريق للعوام، ولا هي حدثت عن طريق التصدير الأفقي للثورة العلمية من أوروبا إلى بقية العالم، أو على الأقل أن الأمور ليست بهذه البساطة والاختزالية. من هذا المنطلق تشكل هذه القراءة نقدًا للقراءة "الانتشارية" diffusionist للتاريخ التي تعتقد بوجود مركز واحد تنتشر المعرفة منه إلى بقية العالم، وكان بالطبع هذا المركز هو أوروبا، بينما كان بقية العالم بمثابة متلقي سلبي للمعرفة الأوروبية. 



يستخدم الكتاب لإثبات هذه الرؤية الكثير من الأدلة عن نقل المعرفة التقنية من مراكز صناعة النسيج في الشرق إلى الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حدث عن طريق إرسال الدول الأوروبية وتحديدًا فرنسا جواسيسًا إلى مصر وغيرها من المراكز العثمانية لصناعة النسيج لتعلم بعض أسرار الحرفة، وتحديدًا الصبغة والعمليات الكيميائية المرتبطة بالتلوين والتبييض، ففي هذه الفترة كانت أساليب الصبغ والتبييض أكثر تنوعًا وجودة في "الشرق" (الهند والدولة العثمانية) من تلك الموجودة في أوروبا، وكان العديد من الألوان (مثل اللون الأحمر) حكرًا على الأغنياء بسبب ارتفاع تكلفة تلوين الأقمشة بهذه الألوان في أوروبا، وكانت الأقمشة أحيانًا يتم إرسالها إلى الشام لصبغها بهذا اللون الفاخر.


تشمل قصص الجاسوسية الصناعية قصة رجل فرنسي يدعى م. جرانجر أرسله ملك فرنسا إلى مصر عام ١٧٣٠ لمعرفة طريقة إنتاج ملح النشادر. قبل ذلك بسنوات كانت أكاديمية العلوم الفرنسية قد اهتمت بمسألة إنتاج ملح النشادر بعدما قام رجلًا كان شهد إنتاجها في مصر بتقديم ورقة للأكاديمية نشرت عام ١٧٢٠ عن هذه المادة.


في نهاية القرن، قرأ كيميائي فرنسي شهير يدعى كلود لوي بيرتوليه، وهو عضو في الحملة الفرنسية جميع هذه التقارير بعناية شديدة، ووجدها متناقضة وغير مكتملة لدرجة أنه من المستحيل تنفيذ نتائجها. كان بيرتوليه قد اكتشف قبلها بسنوات في عمله المختبري في فرنسا لأول مرة أن الكلور يمكن استخدامه كمُبَيِض. في وقت لاحق، أثناء وجوده في مصر، اكتشف أنه كان العنصر الرئيسي في ملح النشادر بعدما قام بتحليله عن كثب واكتشاف المزيد من التفاصيل عن تكوينه التي لم يلاحظها المراقبون الفرنسيون السابقون.


أحد أسباب عدم دقة المعلومات الواردة في هذه التقارير هو أن البيانات تم جمعها من قبل أشخاص كانت لديهم معرفة قليلة أو معدومة بالحرف اليدوية أو التقنيات التي كتبوا عنها. ومع ذلك، في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، كتب جان أنطوان تشابتال: "الآن نعرف كل شيء عنها ويمكننا إنتاجها هنا اقتصاديًا".  لكن هذه العملية استغرقت حوالي قرن ليتم تصنيع ملح النشادر بشكل صناعي واستخدامه في صناعة النسيج.


بسبب قيام الثورة الصناعية في إنجلترا، كان من الصعب على فرنسا المنافسة السعرية مع إنتاج انجلترا الغزير ، وكانت الصناعة هناك متأخرة عن انجلترا بسبب الاضطرابات السياسية الكثيرة التي شهدتها البلاد في القرن التاسع عشر. من أجل أن تزيد من تنافسيتها، ركزت الصناعة الفرنسية على المنتجات الفاخرة كما ركزت الصناعة المصرية على الثياب التقليدية لمواجهة المنسوجات الإنجليزية، كما ذهبت حنا في كتابها عن الحرفيين المصريين الذي قمت بعرضه في هذه التدوينة. استفادت صناعة الملابس الفاخرة من المعرفة بأساليب التلوين والصبغ التي تعلمتها من صناعة النسيج "الشرقية". 


ترفض حنا في هذا الإطار الأسباب الثقافية التي ميزت النظرة الاستشراقية لتراجع العلوم العربية والتي تعزي هذا التراجع لأن الثقافة الإسلامية تعتقد بأن التفكير العلمي والفلسفي سيبعدان المسلمين عن الله، لما تحتويه هذه النظرة الاستشراقية من نظرة حتمية وجوهرانية غير مدعومة تاريخيًا لا بالنسبة لثبات تاريخ المسلمين ووحدة أنماط تفكيرهم ولا بالنسبة لغيرهم.


تنتقد حنا أيضًا بعض المحاولات التي تعتبر نفسها مناهضة للمركزية الأوروبية مثل نظرية الأنظمة العالمية والتي تنطلق في نقدها للمركزية الأوروبية من أرضية ترى أن الشمال يستغل الجنوب عن طريق حصر دوره في تقديم المواد الخام والعمالة غير الماهرة لدول الشمال، وبذلك تتجاهل النظرية--وفقًا لحنا--عمليات نقل المعرفة والعمالة الماهرة من دول الجنوب إلى دول الشمال.


في النهاية ترى حنا أن هذه الممارسات الحرفية المتجذرة اجتماعيًا ساهمت إلى حد كبير في تطور العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث، وتستعين في حجتها بالكثير من الدراسات التي ظهرت مؤخرًا التي تحاول أن تسد الفجوة المزعومة بين الحرف "التقليدية" والاكتشافات العلمية.


من ضمن الأسئلة التي تسألها تلك الاتجاهات البحثية، هو عما إذا كانت الثورة  العلمية فقط نتيجة لعمل نخبة علمية وأكاديمية في سعيها للكشف عن قوانين الطبيعة أم إنها مزيج من العمل النظري الأكاديمي والممارسة الاجتماعية التطبيقية؟ أكدت عادة الإجابات على دور الخبرة التجريبية اليومية للحرفيين كعنصر رئيسي في تطور العلوم الحديثة. بالإضافة لدور الحرفيين الواضح في تطور فهم الكيمياء المرتبطة بالمواد والعمليات المرتبطة بالتلوين والتبييض، يشير الكتاب أيضًا إلى تطورات علمية في مجالات مختلفة من الدواء إلى صناعة العدسات التي اعتمدت على الأقل في بداياتها على الخبرة العملية اليومية لمئات الحرفيين (بما فيهم الحرفيين من دول الجنوب) التي لم تذكرهم أو تعترف بإسهاماتهم القراءات التاريخية التقليدية لتاريخ العلوم.  





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"