المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية



أسامة دياب


ستناقش هذه السلسلة من التدوينات عن المؤشرات الاقتصادية قصور بعض المؤشرات (الدلالات) في التعبير عن الواقع المُعاش (المدلول)، وكيفية تصميم تلك المؤشرات بشكل يخفي من وطأة التفاوتات الاجتماعية بما يجعلها أشبه بمفهوم "الدلالة العائمة"، وستتناول كل تدوينة مؤشر من المؤشرات الاقتصادية، وتحديدًا مؤشرات التضخم والمديونية العامة والناتج المحلي الإجمالي وأسواق الأوراق المالية.


شكلت الدلالة العائمة مفهومًا بارزًا في دراسات الخطاب والعرق ودراسات الجنسانية، وخاصة في التقليد ما بعد البنيوي في العلوم الاجتماعية. اشتهر ستيوارت هول، على سبيل المثال، بوصفه للعرق بأنه دلالة عائمة. تهدف هذه السلسلة من التدوينات إلى توسيع نطاق استخدام هذا المفهوم ليشمل قضية الإحصاءات الاقتصادية.


نشأة المفهوم واستخداماته

تم تطوير مفهوم "الدلالة العائمة" في مجال الأنثروبولوجيا من قبل كلود ليفي شتراوس باعتبارها دلالة "تمثل كمية غير محددة من الاستدلال، في حد ذاتها فارغة من المعنى وبالتالي عرضة لتلقي أي معنى".


وفقًا لتعريف ليفي شتراوس فالدلالة العائمة تعتبر "إعاقة لكل الفكر المحدود" و"ضمانة الفن كله، كل الشعر، كل اختراع أسطوري وجمالي". بالنسبة لـليفي شتراوس ، تعد الدلالة العائمة "رمزًا في أكثر حالاته نقاءًا، وبالتالي يمكن تحميلها بأي محتوى رمزي". 


أما بالنسبة لإرنستو لاكلاو، يعد مفهوم الدلالة الفارغة (وثيق الصلة بالدلالة العائمة) نتاج عملية هيمنة سياسية تؤكد على غياب أو نقص قيمة ما؛ يُبنى هذا النقص كنتيجة لتوحيد العديد من المطالب السياسية من خلال سلسلة من التكافؤ/التماثل التي تمحو المنطق التفاضلي لهذه المطالب. تؤدي هذه المطالب غير الملباة (بعد محو التباين فيما بينها) إلى إنشاء كلية سياسية غير مكتملة (مثل الحرية أو الاستقرار أو العدالة الاجتماعية، إلخ). تصبح هذه الكُليّات دلالات فارغة تنتظر قوة سياسية لتقديم برنامج يعد بملء هذا النقص. بالنسبة للاكلاو "لتهيمن على شيء هو بالضبط أن تقوم بملء هذا النقص". 


جاء هذا المفهوم ليسبب ربكة في مجال اللغويات السوسيرية (نسبة إلى عالم اللغويات فرديناند دي سوسير)، الذي تتكون فيه اللغة في الغالب من دلالات تشير إلى أشياء أو مفاهيم محددة من الواقع (مدلولات)، ولكن نظريات اللغة ما بعد السوسيرية عطلت هذه العلاقة من خلال إبراز أن علامات اللغة ليست مجرد تمثيل لمفاهيم أو أشياء في الواقع (مدلولات)، ويمكن أن تقع في عملية لا نهائية من الإحالات لدلالات أخرى كما هو الحال في مفهوم جاك ديريدا عن الاختلاف والإحالة différance.


يؤكد في هذا السياق ليفي-شتراوس أيضًا على أن العلاقة بين الدلالات والمدلولات ليست مجرد علاقة تكافؤ، أي أنه لا يوجد مخزون متساوٍ من الدلالات والمدلولات، حيث تشير كل دلالة إلى مدلول واحد. يقول ليفي-شتراوس أن كل إنسان لديه تحت تصرفه مجموع من الدلالات، وهو في حيرة من أمره لمعرفة كيفية تخصيصها لمدلولات معينة، وأن هناك دائمًا علاقة عدم تكافؤ أو عدم كفاية (أي عدم ملاءمة أو فائض) بين الاثنين.


هذا الاختلال بين الدلالات والمدلولات هو ما يجعل ظهور الدلالات العائمة ممكنًا كفائض من الدلالات بدون مدلولات واضحة (أي رمز في شكله النقي) أو ما وصفه ليفي شتراوس ب"رمز صفري". بمعنى آخر، إنه عبارة عن مجموعة من الدلالات التي تدور وظيفتها حول كونها متاحة بسهولة لينسب لها معان مختلفة حسب الاقتضاء. من هذا المنظور، يعتبر فائض الدلالات ضروريًا من وجهة نظر ليفي شتراوس في عملية سعي الإنسان لفهم العالم.


زعم أيضًا المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان أن المدلول لا ينتظر أن يمثله دلالة كما هو مشاع، لكن الدلالة هي التي تُنشئ المدلول. بالنسبة للاكان، هذا مؤشر على أن اللغة تسبق دائمًا العالم الذي تمثله، وأن الكلمات التي نستخدمها لها وظيفة تتجاوز الحاجة إلى التواصل. يستخدم لاكان بعد ذلك هذا المفهوم لتشبيه اللاوعي ذاته باللغة في تعبيره الشهير بأن "اللاوعي مبني مثل اللغة" حيث أن اللاوعي ليس ببساطة مستودع للدوافع أو غرفة تخزين للأشياء والتجارب من العالم الواقعي، لكنه في نفس الوقت، مثل اللغة، يسبق هذا العالم الواقعي الذي يمثله.


كما رأينا، ظهر مفهوم الدلالات العائمة/الفارغة في أنثروبولوجيا ليفي شتراوس، ودراسات هول الثقافية، ونظرية لاكلو السياسية، وحتى تحليل لاكان النفسي. ومع ذلك يبقى المفهوم غائبًا عن الإحصاءات الاقتصادية.


ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الإحصاءات نادراً ما تقع في نطاق دراسات اللغة أو الخطاب، وبالتالي تظل علاقات الدلالة بين الإحصائيات من جهة والمفاهيم في الواقع من جهة أخرى غير مستكشفة. ولكن ربما يكون هذا جزءًا من مشكلة أكثر عمومية حيث بقيت الإحصاءات الاقتصادية خارج نطاق وتركيز العلوم الاجتماعية بسبب الفصل الكيفي/الكمي الحاد بين الاقتصاد والعلوم الاجتماعية الأخرى؛ وبالتالي، فقد تم ترك التعامل مع الإحصاء الاقتصادي إلى حد كبير لعلماء الاقتصاد القياسي econometrics وخبراء الاقتصاد السائد mainstream economics ، ويهيمن عليه إلى درجة كبيرة نهج كمي.


الخطاب واللغة والأرقام

ولكن ما هو بالضبط الخطاب ولماذا يهم لدراسة الإحصاءات الاقتصادية؟ الخطاب مفهوم شائك يصعب تحديده بشكل دقيق، تم إنشاؤه من قبل علماء الاجتماع للدلالة على دراسة اللغة التي تأخذ السلطة والقوة في الاعتبار. يقول كيث سوير أن الخطاب أصبح يحل محل مفاهيم "الثقافة" و "الأيديولوجية" و "اللغة" إلى حد كبير في مجالات العلوم الاجتماعية بسبب معناه السائل.


يجادل سوير بأن الخطاب جاء ليحل محل الأيديولوجيا لأن الأخيرة ارتبطت منذ فترة طويلة بقراءة أرثوذكسية للقاعدة/البنية الفوقية الماركسية حيث يتم تقديم الإيديولوجية بتبسيط مخل كنتيجة فقط لعلاقات الإنتاج في المجتمعات. الاهتمام المتزايد بالثقافة التي ربما بدأ بمدرسة فرانكفورت أو ما أطلق عليها "الماركسية الثقافية"، تم انتقاده لاحقًا بسبب كونه مفرط أيضًا في الاختزالية. أما بالنسبة للغة، يجادل سوير بأن الخطاب حل محلها لأن اللغة كانت مركزة بشكل ضيق للغاية على النظم الرمزية.


تعرضت دراسة الخطاب لانتقادات عديدة. من ضمن تلك الانتقادات هو كونها مجال لاتاريخاني وتركيزها على المجتمعات الفردية كنظم قائمة بذاتها، ولكن هناك شيء واحد تم تجاهله بالكامل من قبل منظري ومنتقدي دراسات الخطاب على حد سواء، وهو الفشل في جلب الإحصاءات تحت مظلتها. الإحصائيات - تمامًا مثل البنى النحوية - مليئة بالتحيزات ودلالات القوة، وتساهم بشكل كبير (وربما أكثر من غيرها من الدلالات بسبب طبيعتها المقترنة بالموارد) في إساءة تحديد أوجه عدم المساواة، كما سيتم مناقشته تفصيلًا وبأمثلة في تدوينات لاحقة عن مؤشرات التضخم والمديونية والناتج المحلي الإجمالي.


ولكن ما هو الخطاب وماهو الذي يميزه عن البنى النحوية؟ ميز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الشهير "حفريات المعرفة" بين نوعين من العلامات، وهم العبارة والجملة. لا يمكن فهم العبارة إلا من حيث علاقتها بمفهوم الخطاب. بالنسبة لفوكو، فإن العبارة هي حجر بناء الخطاب. يكتب فوكو أنه قبل الشروع في كتابة حفريات المعرفة، أنه استخدم مصطلح "الخطاب" بثلاثة طرق مختلفة. الأولى تمثل المعنى الأكثر "عمومية" و "غموضًا" وتدل على مجموعة من العروض اللفظية التي تنتجها مجموعة من العلامات. والثاني هو الخطاب كمجموعة من أعمال الصياغة، أي سلسلة من الجمل أو الافتراضات. المعنى الثالث، وهو المعنى المستخدم في حفريات المعرفة، فيه الخطاب "يتكون من مجموعة من متواليات الإشارات، بقدر ما هي عبارات، أي بقدر ما يمكن نسبها لنمط معين من أنماط الوجود" .


يجادل فوكو بأن العبارات تختلف عن البنى النحوية وأنه "من السهل ذكر العبارات التي لا تتوافق مع التركيب اللغوي للجمل" بما في ذلك "الجداول التصنيفية للأنواع النباتية، وشجر الأنساب، ودفاتر الحسابات ، وحسابات الميزان التجاري." يعتبر إذن فوكو بوضوح محتويات دفاتر الحسابات والأرصدة التجارية وما شابهها عبارات حتى لو كانت لا تشكل جملًا نحوية، وبالتالي ينبغي أن تكون وحدات أولية يتشكل منها خطاب أوسع. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بمناقشة الخطاب نفسه، لا تختفي الإحصائيات فقط من عمل فوكو، ولكن أيضًا من عمل معظم منظري وممارسي الخطاب الآخرين. إن ما ركز عليه معظم محللي الخطاب فعليًا هو البنى النحوية وليس العبارات.


بسبب عدم خضوعها لتحليلات وانتقادات مماثلة للبنى النحوية، انتهى الأمر بالإحصاءات الاقتصادية إلى الحصول على معاملة مميزة كتعبيرات قبل خطابية أو خارج الخطاب. لم تتعطل العلاقة بين الإحصائيات كدلالات من جانب ومدلولاتها من جانب آخر بنفس طريقة الأشكال الأخرى من العلامات. بالنسبة للأشكال أخرى من العلامات مثل الكلمة المكتوبة، تخبرنا نظرية الخطاب أن المعاني (في صيغة الجمع) تكمن مع القاريء وبالتالي فهي متعددة ومفتوحة للتفسير، لكن صمتها حول الإحصائيات يجعل معانيها لا تزال كامنة في الأعداد نفسها أو النص ذاته وبالتالي لا يزال التعامل معها إلى حد كبير كبديهية وكمجال خالي من الخلاف.


من المهم أن نلاحظ هنا أن الإحصاءات تحفز بعض أشكال الخطاب الاقتصادي النقدي، مثل مناقشة مسألة جدوى الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر للرفاه. ومع ذلك، فإن عددًا قليلًا جدًا سوف يتساءل عن حقيقة وقيمة تمثيل معدلات الناتج المحلي الإجمالي، وسوف يتحدى فقط فائدة هذه الحقيقة لقياس جوانب معينة من الحياة الجماعية لسكان معينين، مثل رفاههم ورفاهيتهم ، إلخ. على سبيل المثال، لورنزو فيورمينتي، الذي بحث بشكل مكثف في فائدة بعض الإحصاءات الاقتصادية بما في ذلك الناتج المحلي الإجمالي يكتب:


يجب أن يكون المجتمع الصحي قادرًا على التمييز بين مجالات السياسة التي يكون فيها القياس مفيدًا، ومجالات السياسة التي لا يكون فيها مفيدًا. هناك حدود لما يمكننا قياسه. إذا تمادينا في عقلانيتنا الرقمية بعيدًا، فسوف ينتهي بنا الأمر إلى تبسيط الواقع. عندما يحدث هذا، تصبح أدوات القياس لدينا أكثر أهمية مما نقيسه. لقد انتهى بنا المطاف بالرغبة في قياس ما يمكننا قياسه، بدلاً من قياس ما نريد قياسه. ينتهي الأمر بالتلاميذ إلى دراسة ما هو مهم للاختبارات فقط، ويركز الأزواج على كمية وليس جودة العاطفة، ويصبح العمال من جميع الأنواع عبيد لشروط الإنتاجية المفروضة عليهم.


هنا فيورمينتي لا يلقي أدنى شك على قوة تمثيل الأرقام، ولكن كل ما يطرحه هو جدواها واحتمال أن تكون هناك مبالغة في تبسيط الواقع؛ ومع ذلك، لا يزال الاتصال بحقيقة معيّنة موجودًا حتى إذا كانت هناك مخاطر من التبسيط المفرط لهذه الحقيقة. بهذا المعنى، لا تزال الإحصائيات موجودة خارج الخطاب وسابقة عليه حتى لو نشأت عنها بعض أشكال الخطاب. لذلك من المهم عدم الخلط بين "الخطاب حول الإحصاءات" الموجود بشكل متطور إلى حد ما و "الإحصاءات كخطاب" موضوع هذه التدوينة.

   

لجعل هذه النقطة أكثر وضوحًا، تعمل الإحصاءات بهذا المعنى ك"مركز" لبنية معرفية اقتصادية. جادل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، في محاضرته الهامة عام 1966 بعنوان "البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية"، أن المركز يحد من اللعب في البنية بأكملها، ويقوم بتوجيه وتنظيم البنية ككل. المركز  الدريدي هو النقطة التي تحكم البنية، النقطة التي لم يعد من الممكن فيها استبدال المحتويات أو العناصر أو المصطلحات: الأرضية الصلبة التي تقع خارج متناول اللعب. بهذا المعنى، إذا كانت المعرفة الاقتصادية السائدة عبارة عن بُنية فإن الإحصائيات تعمل كمركز لها، حيث تقوم بتوجيه وتنظيم ووضع حدود للخطاب الاقتصادي ولكنها تقع خارج نطاق لعبه.


المراجع

  • Barthes, R. (2017). The Death of the Author. The Continental Aesthetics Reader, 519–524. doi: 10.4324/9781351226387-35

  • Blommaert, J. (2005). Discourse: A Critical Introduction. Cambridge: Cambridge University Press.

  • Chandler, D. (2017). Semiotics: the basics (3rd ed.). New York, NY: Routledge.

  • Derrida, J. (1970). Structure, Sign, and Play in the Discourse of the Human Sciences. Retrieved from http://www2.csudh.edu/ccauthen/576f13/DrrdaSSP.pd

  • Feher-Gurewich, J. (2003). A Lacanian approach to the logic of perversion. In The Cambridge companion to Lacan(pp. 191–207). Cambridge: Cambridge University Press.

  • Fioramonti, L. (2014). How numbers rule the world: the use and abuse of statistics in global politics. London: Zed Books.

  • Foucault, M. (1969). What is an author? Retrieved from https://www.open.edu/openlearn/ocw/pluginfile.php/624849/mod_resource/content/1/a840_1_michel_foucault.pdf

  • Foucault, M. (2002). The Archeology of Knowledge. London: Routledge.

  • Jhally, S. (1997). Stuart Hall: Race, the floating signifier. USA: Media Education Foundation. Retrieved August 16, 2019, from http://bufvc.ac.uk/dvdfind/index.php/title/av75800

  • Laclau, E. (2007). Emancipation(s). London: Verso.

  • Lévi-Strauss, C. (1987). Introduction to the Work of Marcel Mauss. London: Routledge & Kegan Paul.

  • Mehlman, J. (1972). The 'Floating Signifier': From Lévi-Strauss to Lacan. Yale French Studies, (48), 10. doi: 10.2307/2929621

  • Sawyer, R. K. (2002). A Discourse On Discourse: An Archeological History Of An Intellectual Concept. Cultural Studies, 16(3), 433–456. doi: 10.1080/09502380210128324

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"