المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة (٤): التضخم


هذه التدوينة جزء من سلسلة تدوينات عن الاحصائيات والمؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة. لقراءة المقدمة المفاهيمية للسلسلة برجاء تتبع هذا الرابط.


قامت زيمبابوي بإلغاء عملتها بعدما تعرضت لتضخم شديد وصل لدرجة إصدار السلطات النقدية بنكنوت بقيمة مائة تريليون دولار زيمبابوي. تباع الآن تلك العملات كتذكار على الإنترنت.

أسامة دياب


طالما كان هناك قدر كبير من الدراسات والنظريات حول التضخم في جميع مدارس الفكر الاقتصادي. في الغرب، يمكن على الأقل تتبع دراسات التضخم في العصر الحديث إلى ديفيد هيوم عندما صاغ نظريته الكمية عن النقود. في فترة ما قبل الحداثة، صاغت أيضًا أسماء مثل ابن خلدون والغزالي والمقريزي نظريات عن التضخم (Figuera, 2018). تركز معظم النظريات الحديثة للتضخم على القضايا المتعلقة بالعلاقة بين التضخم والعمالة وتأثير زيادة المعروض من النقود على الطلب الكلي (مثل المدرسة الكينزية والكينزية الجديدة)، وبالطبع تأثير المعروض النقدي على السعر واستقرار السوق (مثل المدرسة النقدية). عندما يتم الربط بين التضخم وعدم المساواة، ينصب معظم التركيز على السلوك التوزيعي للأموال التي تم ضخها في السوق حديثًا، وعلى القضايا المتعلقة بالتوقع والمعلومات التي تتيح للأثرياء التحوط بشكل أفضل ضد التضخم (مثل المدرسة النمساوية).

نظرت المدرسة النمساوية في تحليلها للعلاقة بين التضخم واللامساواة، إلى التضخم في الغالب من منظور تآكل الثروة الذي يؤثر على المقتنيات النقدية ويفيد المستقبلين الأوائل للنقد الجديد كما في نظرية عدم حياد المال (Von Mises, 1939). ومع ذلك، لا يزال هناك فجوة معرفية كبيرة عن التضخم باعتباره عامل محتمل لتفاقم عدم المساواة فيما يتعلق بتفاوت أنماط الاستهلاك والإنفاق بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وهو التباين الذي غالباً ما يتم إخفاؤه خلف مؤشرات التضخم الوطنية الموحدة. 

من رواد هذا النوع من دراسات التضخم باللغة العربية الباحث الاقتصادي محمد سلطان الذي ناقش التفاوتات الكبيرة في اختبار التضخم وارتفاع الأسعار من قبل الفئات الاجتماعية المختلفة في كتابه "أكبر من أن ترى: عن الإدراك الاجتماعي للأزمات الاقتصادية". يمكنكم أيضًا السماع لحوار مع محمد سلطان عن كتابه في هذا العدد من بودكاست الجباية ببساطة.

تفترض ضمنًا الإحصاءات الاقتصادية الوطنية التي تعتمد على الإجماليات أو المتوسطات إلى أن الأفراد داخل الاقتصاد الوطني لديهم تجارب مماثلة لتكون هذه الإحصاءات الوطنية معبرة بما يكفي عن تجارب الناس الحية على اختلاف أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. التضخم مثال جيد عن الكيفية التي تفشل فيها المتوسطات الاقتصادية الوطنية في كثير من الأحيان في التعبير عن التجارب الحية لمعظم الناس، وغالبًا ما تخفي مصادر  اللامساواة أو على الأقل تسيء تحديد موقعها. 

في كل مكان تقريبًا، وعلى مدار جميع الفترات الزمنية، تنفق المجموعات ذات الدخل المنخفض نسبة أكبر بكثير من إجمالي إنفاقها على الغذاء، وغالبًا ما يكون هذا المعدل أعلى كثيرًا مما تشير له سلة البضائع الافتراضية التي يتحدد على أساسها معدل التضخم الوطني. يقول أحد أهم رواد دراسات اللامساواة أنتوني أتكينسون (٢٠١٩) أن هناك طريقتين يختلف فيهما مؤشر أسعار الفقراء عن المؤشر الوطني لأسعار المستهلكين. الاختلاف الأول هو الوزن المرتبط بالسلع والخدمات في سلة الإنفاق، والثاني هو الأسعار المطبقة عند قياس التضخم. "كلا الفرقان- في الأوزان وفي أسعار السلع - يُحتَمَل أن يكونا كبيران. ينفق الفقراء حصة أعلى من دخلهم على الضروريات وخاصة الغذاء، وقد تختلف الأسعار التي يواجهونها مقارنة بالفئات الأخرى."

تؤكد هذه الفروقات المحتملة على الحاجة الماسة إلى بيانات تضخم مصنفة لمراعاة تجارب مختلف الفئات الاجتماعية، وخاصة تلك الموجودة في أسفل سلم الدخل والإنفاق؛ سيساعد ذلك على زيادة الوعي حول الفئات الاجتماعية التي تتحمل في الغالب العبء الأكبر من برامج الإصلاح من أجل اعتماد سياسة تعوضهم بشكل كاف عن خسارتهم غير المتناسبة.

يظهر التضخم عادة كآلية محايدة نسبيًا مقارنة بالضرائب لاعتباره ظاهرة تؤثر بشكل أولي على السلع وتؤثر فقط على المواطنين بشكل ثانوي. في المقابل، تختلف الضرائب على مستوى العالم وفقًا لأنماط دخل وإنفاق المواطنين، وبالتالي يصعب إخفاء حساسيتها تجاه الوضع الاجتماعي والاقتصادي لدافعي الضرائب. من ناحية أخرى، لا يُنظر إلى التضخم على أنه تراجعي إلا لأن الأثرياء أكثر قدرة على التحوط ضده، لكنه يظل مقبولاً كضريبة ثابتة ومحايدة على المعاملات النقدية.

ومع ذلك، يمكن أن تُظهِر بيانات التضخم المصنفة حسب الفئات الاجتماعية أنه مثله مثل الضرائب، يمكن أن تكون أيضًا ضريبة شديدة التباين والحساسية للوضع الاجتماعي والاقتصادي، ليس فقط لأن الأثرياء أكثر قدرة على التحوط ضده، ولكن أيضًا بسبب الاختلاف الكامن بين أنماط الاستهلاك المجموعات الاجتماعية المختلفة.  إذا كان الغذاء، الذي يشكل الجزء الأكبر من إنفاق الفئات ذات الدخل المنخفض، يتعرض لمعدلات ارتفاع الأسعار أسرع من السلع والخدمات الأخرى، فمن المرجح أن تعاني الفئات ذات الدخل المنخفض من معدلات تضخم أعلى مقارنة بفئات الدخل الأعلى. كان هذا هو الحال بالفعل في العديد من البلدان في السنوات الأخيرة.

على سبيل المثال، كان معدل التضخم العالمي ٢،٥ في المائة في عام ٢٠١٨، في حين بلغ معدل تضخم الغذاء العالمي حوالي 4 في المائة في العام ذاته (Ivanic and Martin, 2018). في بنجلاديش، يُظهر مؤشر أسعار الاحتياجات الأساسية (Basic Needs Price Index)، والذي يتكون بشكل أساسي من المواد الغذائية، ارتفاعاً في أسعار الاحتياجات الأساسية بلغ ٨٥،٥ في المائة خلال الفترة من ٢٠٠٥ إلى ٢٠١٠، مقارنة بـ ٤٤ في المائة زيادة في مؤشر أسعار المستهلكين الرسمي والذي يشمل الإنفاق الأساسي وغير الأساسي (Atkinson, 2019).

كما لاحظت مبادرة أبحاث الفقر (Poverty Research Initiative) أنه في أيرلندا بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٠١، ارتفعت الأسعار بالنسبة لفقراء الحضر بشكل أعلى مقارنة بالسكان ككل. قالت المبادرة في تقريرها: 

"يجب على المكتب الإحصائي المركزي الأيرلندي حساب مؤشرات أسعار مستهلكين منفصلة لفئات الأسر المختلفة وإتاحتها لواضعي السياسات والجمهور. ببساطة نشر مؤشر أسعار المستهلكين  الوطني يعني أنه لا توجد معلومات متاحة عن الزيادات الحقيقية في الأسعار التي تختبرها الفئات المختلفة في المجتمع. لا ينبغي أن يتضمن تجميع مثل هذه المؤشرات المتنوعة للفئات المختلفة زيادة كبيرة في الموارد من جانب المكتب الاحصائي الأيرلندي"
(Murphy & Garvey, 2004)

في المملكة المتحدة أيضًا، تبيَّن أن أفقر ٢٠ في المائة من السكان يواجهون معدل تضخم أعلى من جميع شرائح الدخل الأخرى في كل الأعوام بين ٢٠٠٣ إلى ٢٠١٣ باستثناء عامًا واحدًا (Monaghan, 2014). 

يمكن أن تستفيد دراسات التضخم أيضًا من البحث الكيفي لتوفير تحليل متعمق للتجارب الحية التي لا يوفرها الاقتصاد الكلي الكمي وكثيرًا ما يفشل في رصدها. لطالما افتخر مجال الاقتصاد بنماذجه الكمية "الصارمة" مقابل نماذج العلوم الاجتماعية "الأضعف" التي تعتمد بدرجة أكبر على التحليل النوعي "الأقل صرامة" (White, 2002). بالرغم من ذلك، لقد ثَبُت مرة تلو الأخرى أن هذا الصرامة المزعومة مليئة بأوجه القصور، وقد يكون الوقت قد حان للاقتصاد لتبني بعض أساليب العلوم الاجتماعية الأخرى. 

أخيرًا، لا يمكن اعتبار الإحصائيات التي تركز على المتوسطات كما هو الحال في معدلات التضخم والإجماليات كما في الناتج المحلي الإجمالي تعبيرًا جيدًا عن الواقع، لأن سؤال "واقع من؟" سيقوم حينها بطرح نفسه. تخبرنا المتوسطات والمجاميع ربما بشيء ما عن مجموع تجارب كل الأفراد، ولكن لا تخبرنا شيئًا تقريبًا عن تجارب المكونات المختلفة لهذا المجموع. 

من خلال تصنيف البيانات ودعم التحليل الكمي بالتحليل الكيفي (الذي يعتمد بدرجة أقل على المسوحات الواسعة وبدرجة أكبر على مقابلات مطولة مع عينات أصغر)، يمكن للبيانات الاقتصادية أن تقترب إلى تمثيل أفضل للتجارب الحية والمتنوعة للفئات الاجتماعية المختلفة. يمكن أن يساعد ذلك في تحسين جودة السياسات العامة حال توافر إرادة سياسية للقضاء على الفقر والحد من اللامساواة- فضلًا عن مساعدة مجموعات الدعوة والمناصرة في مجالات العدالة الاقتصادية ومحاربة الفقر على تبني نضالات مبنية على قدر أكبر من المعرفة.

المراجع
  1. Atkinson, A. B. (2019). Measuring poverty around the world. Princeton and Oxford: Princeton University Press.
  2. Balac, Z. (2008). Monetary Inflation’s Effect on Wealth Inequality: An Austrian Analysis. The Quarterly Journal of Austrian Economics, 11(1), 1–17. doi: 10.1007/s12113-008-9028-4
  3. Figuera, S. (2018). Considerations on Islamic Economic Thought Regarding Monetary Matters in the Middle Ages. OEconomia, (8-1), 1–28. doi: 10.4000/oeconomia.2928
  4. Flower, T., & Wales, P. Variation in the inflation experience of UK households: 2003 - 2014 (2014). Office for National Statistics.
  5. Ivanic, M., & Martin, W. (2018, April). Implications of Higher Global Food Prices for Poverty in Low-Income Countries. Retrieved from http://documents.worldbank.org/curated/en/253001468150585777/pdf/wps4594.pdf
  6. Monaghan, A. (2014, December 15). Britain's poorest households face higher rates of inflation, research suggests. Retrieved from https://www.theguardian.com/business/2014/dec/15/poorest-households-inflation-spending-income
  7. Murphy, E., & Garvey, E. (2004, October). A Consumer Price Index for Low-Income Households in Ireland (1989-2001) . Retrieved from http://citeseerx.ist.psu.edu/viewdoc/download?doi=10.1.1.499.3875&rep=rep1&type=pdf
  8. Von Mises, L. (1939). The Non-Neutrality of Money. Retrieved August 17, 2019, from https://mises.org/library/money-method-and-market-process/html/p/377

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"