المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة (٢): الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي

هذه التدوينة جزء من سلسلة تدوينات عن الاحصائيات والمؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة. لقراءة المقدمة المفاهيمية للسلسلة برجاء تتبع هذا الرابط.

شكل ١ نسبة الضرائب من الناتج المحلي الإجمالي في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، والدول ذات الدخل المرتفع.
 المصدر: بيانات البنك الدولي

أسامة دياب

لا تخلو العديد من المؤشرات الإحصائية من التحيز. ومع ذلك، هذه ليست دعوة للتخلي عن الإحصاءات، ولكن لفهم حدودها والعمل من أجل تطويرها بهدف إضفاء بعض التوازن المفقود في مسألة إدارة وتوزيع الموارد في المجتمع.


أحد المؤشرات التي نأخذها عادةً كأمر مسلم به هو نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.


الطريقة الأفضل لقياس حجم الدين العام من مقارنته بحجم الاقتصاد هو ربما بقياسه بالنسبة لحجم الموارد التي سيتم دفع أقساط وفوائد الديون منها، أي الإيرادات الحكومية (بالعملات المحلية والدولية).


عندما تسدد الحكومات ديونها، فإنها لا تعتمد على الدخل/الناتج القومي للقيام بذلك ولكن تعتمد على دخلها الخاص، وبسبب هذه التفرقة لا نضيف مثلًا ديون القطاع الخاص أو القطاع العائلي للمديونية العامة لأن الحكومة لا تتحمل عبء سدادها، لكن لسبب ما استقر الجميع على الأخذ في الاعتبار دخل القطاع الخاص والعائلي والمجتمع ككل عند قياس الدين العام. 


يختلف مقدار الدخل الذي تجمعه الحكومات اختلافًا كبيرًا بين البلدان، ولكن كقاعدة عامة مع استثناءات قليلة جدًا، كلما كان البلد أكثر ثراءً، كلما زاد الجزء من الدخل القومي الذي تجمعه الحكومات كضرائب (أنظر الشكل ١). ويمكن ملاحظة ذلك عادةً عند النظر لمؤشرات الضريبة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. كنت قد ناقشت في هذه التدوينة الصعوبات الذي يضعها النظام العالمي على دول الجنوب في زيادة متحصلاتها الضريبية مما يجعلها أكثر عرضة وحاجة إلى الاستدانة.


تحتوي معظم مقاييس التصنيف الائتماني واستدامة الديون على مزيج من كلا المؤشرين (الدين العام كنسبة من الناتج المحلي وكنسبة من الدخل الحكومي)، ومع ذلك، فإن الوزن المُعطى لمؤشر الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي يبالغ من قدرة الدول على تحمل الديون في البلدان ذات الدخل المنخفض.


عندما يتم التقليل من شأن مشكلة الديون، فهذا يعني أن قروض جديدة سيتم تمديدها إلى البلدان التي لم تعد فيها معدلات المديونية العامة مستدامة على الأقل من وجهة نظر الحقوق الاقتصادية، لأنها تفرض ضغوطًا هائلة على المالية العامة.


فلنأخذ مثالاً ملموسًا لتوضيح هذه النقطة. تمتلك اليونان والسودان مستويات مماثلة من الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي - كلاهما حوالي 175٪. ومع ذلك  فإن نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في السودان أقل بقليل من 8٪ وفي اليونان النسبة حوالي 26٪، أي أكبر بأكثر من ثلاث مرات. هل يجب أن يعاملوا بالطريقة نفسها لأن لديهم ديون مماثلة لحجم الاقتصاد أو بطريقة مختلفة تمامًا لأن حكومة اليونان تحشد جزء أكبر من الناتج المحلي كضرائب؟  بالطبع هناك العديد من العوامل الأخرى المهمة التي يجب مراعاتها عند حساب استدامة الديون، مثل تاريخ استحقاق الديون والإيرادات غير الضريبية، وما إلى ذلك، ولكن دعونا، من أجل المثال، نفترض تساوي كل العوامل الأخرى.


إذا قمنا بقياس عبء الدين نسبةً إلى الإيرادات الضريبية، فستكون النسبة حوالي 670٪ من الإيرادات الضريبية في اليونان و 2200٪ في السودان. بعبارة أخرى، إذا توقفت الدولتان عن أخذ أي ديون جديدة، ودفعت كل عائداتها الضريبية لخدمة هذا الدين دون حتى دفع فوائد عليه، فسوف يستغرق اليونان 6 سنوات و8 أشهر لسداده وسيستغرق السودان 22 عامًا .


تأخذ وكالات التصنيف الائتماني والمؤسسات المالية الدولية تدفقات الإيرادات في الاعتبار عند تقييم حالة الديون، ولكن غالبًا ما يتم إعطاؤها نفس الوزن كنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي-المؤشر الذي لا يخبرنا الكثير عن قدرة الحكومة على خدمة ديونها بسلاسة.


على سبيل المثال، في مصر الآن، تستهلك مدفوعات الفوائد حوالي ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي وحوالي ثلثي إيراداتها مما يضع ضغوطًا هائلة على الإنفاق المتدني بالفعل على الخدمات والبرامج الحيوية مثل الصحة والتعليم ومكافحة الفقر. تسببت سياسة التقشف للجميع (باستثناء المقرضين) في زيادة معدلات الفقر الرسمية من 27.8 في المائة في السنة المالية 2015/2016 إلى 32.5 في المائة في السنة المالية 2017/2018.


كما تسببت تلك المزاحمة في انخفاض الإنفاق العام على الصحة من 1.62 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في السنة المالية 2015/2016 إلى 1.34 في المائة في السنة المالية 2017/18 مقارنة بالمتوسط ​​العالمي البالغ حوالي 3.3 في المائة في عام 2017؛ البلدان ذات الدخل المتوسط ​​المنخفض التي تنتمي إليها مصر تنفق 2.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على الصحة. وبالمثل، في السنة المالية 2017/2018، تم تخصيص 1.7 في المائة من الناتج القومي الإجمالي للتعليم قبل الجامعي، والذي انخفض إلى ما يقرب من 1.4 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في السنة المالية 2018/19، وهو أيضًا أقل بكثير من المتوسطات العالمية ومتوسطات البلدان ذات الدخل المتوسط.


يصبح هذا الأمر أكثر لفتًا للانتباه عندما يتضح أن هذا المستوى من المديونية ليس حتميًا. لا تزال مصر، مثل العديد من دول العالم الجنوبي، لديها إمكانات هائلة غير مستغلة عندما يتعلق الأمر بتحصيل الضرائب التي قد تجنبها الكثير من الاقتراض. مصر لا تجمع سوى حوالي 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي كضرائب، في حين تتراوح النسبة في دول الشمال العالمي عادة ما بين 25 و 45 في المائة، وعادة ما تدفع البلدان المتوسطة الدخل حوالي خمس الناتج المحلي الإجمالي في الضرائب. هذا الرقم مبالغ فيه أيضًا لأنه يحسب الإيرادات من قناة السويس المملوكة للدولة وقطاع البترول العام ك"ضرائب".


يبدو أن هذه الإمكانات غير المستغلة تكون في الغالب في مجالات ضريبة الشركات والممتلكات، حيث المستويات الحالية منخفضة للغاية والهيكل رجعي تمامًا. في السنوات الأخيرة، كان هناك اعتماد مفرط على ضرائب الاستهلاك التنازلية التي يقع عبئها في الغالب على الفقراء، والتي تشكل الآن حوالي نصف الإيرادات الضريبية في مصر.


صنفت وكالات التصنيف الائتماني مثل موديز، التي تمنح تصنيفات ائتمانية للدول، مصر عند مستوى B2 وتعتبر مستقبلها مستقرًا. في تقييمها لشهر مايو، أقرت الوكالة بفاتورة الفائدة المرتفعة وحقيقة أنها ستؤدي إلى "تشديد شروط التمويل" ولكنها تراجعت بسرعة قائلة أن هذا لا يشكل خطر التخلف عن السداد أو الإفلاس، أي أن الأمور على ما يرام طالما استمرت الدولة في خدمة ديونها بغض النظر عن التكلفة الاجتماعية. 


يقول التقرير:


"إن متطلبات التمويل الكبيرة للحكومة المصرية وضعف القدرة على تحمل الديون بسبب فاتورة الفائدة المرتفعة تعرضها إلى تشديد حاد في ظروف التمويل الناجم عن فيروس الكورونا. ومع ذلك، في هذه المرحلة، تعتقد وكالة موديز أن سجل تنفيذ الإصلاح الاقتصادي والمالي والقدرة المثبتة على إدارة الصدمات الكبيرة تقلل من احتمال حدوث اضطراب في السوق المالية العالمية يؤثر بشدة على مصر."


على الرغم من الآثار الشديدة للديون المتزايدة، فوفقًا لمعظم المؤسسات المالية الدولية والتصنيفات الائتمانية، الدين في مصر مستدام في الغالب لأنها لا تزال قادرة على خدمته على الرغم من التكلفة الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة لهذه الخدمة. يرجع هذا التفاوت في الغالب إلى ضعف الإيرادات الضريبية في مصر، فحتى لو لم تكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عالية، فإن تحصيلها الضريبي الضعيف لا يزال يضع عبئًا كبيرًا على الميزانية الوطنية مما يحرم الخدمات الحيوية من التمويل اللازم.


أود أن أختتم باقتباس عن منظمة Eurodad يلخص إشكالية إغراق دول الجنوب في الديون:


"يهيمن المقرضون على وضع القواعد والتعريفات المحيطة بقضايا الديون. على سبيل المثال، تحدد المؤسسات المالية الدولية القواعد التي تحدد ما إذا كان بإمكان دولة فقيرة خدمة ديونها أم لا: من خلال إطار استدامة الديون المشترك بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (Joint IMF-World Bank Debt Sustainability Framework). فشل الإطار في أخذ الاحتياجات البشرية في الاعتبار ويستند تحليله بشكل أساسي إلى مجموعة محدودة من الاعتبارات المالية. استمرار هذا النظام الدولي المعيب يعني أن خدمة الدين العام ستستمر في تحويل المال العام من الإنفاق على مكافحة الفقر والتنمية العادلة إلى جيوب المقرضين".





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"