المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة (٥): الناتج المحلي الإجمالي والعمل المنزلي

هذه التدوينة جزء من سلسلة تدوينات عن الاحصائيات والمؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة. لقراءة المقدمة المفاهيمية للسلسلة برجاء تتبع هذا الرابط.

أسامة دياب

"لو أن مديرة منزل كانت تعمل لدى شاب أعزب ثم تزوجت منه لأدى هذا إلى انخفاض الدخل القومي"

تستخدم الباحثة الاقتصادية سلوى العنتري هذا الاقتباس للاقتصادي البريطاني آرثر سيسل بيجو للتدليل على اعتباطية قياسات الناتج المحلي والدخل القومي في دراستها حول حساب قيمة العمل المنزلى غير المدفوع للنساء فى مصر، وهو العمل الذي لا يتم إدراجه في حسابات الناتج المحلي الإجمالي حتى لو كان عمل منتج ويزيد من رفاهية المجتمع، وحتى لو كان الشرط المسبق للإنتاج باعتبار المنزل"مصنع اجتماعي" ينتج ويعيد إنتاج قوة العمل في المجتمع.

يعتبر الناتج المحلي الإجمالي هو عمدة المؤشرات الاقتصادية، وينبثق منه الكثير من المؤشرات الأخرى مثل  النمو الاقتصادي ومعدل دوران النقود (الناتج المحلي الإجمالي/المعروض النقدي) والكثير من القياسات المرتبطة بمعدلات التنمية والرفاه. فضلًا عن ذلك، الناتج المحلي هو المؤشر المفضل لقياس مؤشرات أخرى نسبة إليه، فإذا أردنا مثلًا قياس الإنفاق العسكري أو الإنفاق على الصحة فعادة ما ننسبه للناتج المحلي، وكذلك تقاس الديون السيادية نسبة إلى الناتج المحلي على الرغم من قصور ذلك النهج كما ناقشنا في هذه التدوينة.

بالإضافة لعدم رصده للقطاع غير الرسمي، وفي نفس الوقت رصده لأنشطة لا تخلق القيمة لكن تقوم بتوزيعها مثل القطاع المالي كما ناقشنا في العدد الرابع من يد خفية عن الأموَلة (من الدقيقة ١٩:٢٠ للدقيقة ٢٦:٠٩)، يفشل أيضًا الناتج المحلي الإجمالي في رصد الأعمال داخل المنزل.

تقول العنتري في معرض دراستها أن عدم إدراج العمل المنزلي غير مدفوع الأجر في الحسابات القومية والناتج المحلي الإجمالي يترتب عليه أمران على قدر بالغ من الأهمية، أولهما أن هناك جزء من إنتاج المجتمع لا يتم أخذه في الحسبان، ويعني هذا، وفقًا لها، أن إجمالي الناتج في المجتمعات المختلفة مقوم بأقل من حقيقته. والأمر الثاني، هو أن جزءًا كبيرًا من مساهمة النساء الفعلية في النشاط الاقتصادي رغم اهميته يظل غير معترف به ولا يتم احتساب قيمته بحيث تظهر المساهمة الكلية للنساء في النشاط الاقتصادي مقومة بأقل من حقيقتها، وهو ما يؤدي بذاته إلى "التأثير سلبًا على المكانة الاجتماعية للنساء ومدى قدرتهن على المشاركة في صنع القرار".

قامت منذ عشرينات القرن العشرين عدة محاولات للقياس الاقتصادي للعمل المنزلي، ووصلت أغلب الدراسات  إلى نتائج مشابهة وهي أن قيمة العمل المنزلي تمثل ما يقرب من ثلث حجم الناتج المحلي الإجمالي، فكانت النسبة ٣٢% في السويد عام ١٩٢٩ و٣٥% في الولايات المتحدة في نفس السنة و٢٧% في بريطانيا بعدها بنحو ثلاثة عقود عام ١٩٥٦.

أما في الآونة الأخيرة، فوفقًا للشكل أدناه نرى نتائج متباينة بين طريقتي تقدير قيمة العمل المنزلي. فوفقًا لأجر الفرصة البديلة وهو الحالة التي يفترض فيها أن ساعات العمل المنزلي قضيت في العمل في السوق، تُظهِر الدراسة أن النسب تكاد تقترب لنصف الناتج المحلي الإجمالي وتصل في بعض الدول إلى ٧٥% من الناتج! أما وفقًا لطريقة الحساب الأخرى (أجر المثيل غير المتخصص)، والتي تفترض الاستعانة بخدمة مدفوعة الأجر للقيام بالأعمال المنزلية، فنرى أن النسب أقل نسبيًا لكنها ما زالت مرتفعة.
المصدر: دراسة تقدير قيمة العمل المنزلى غير المدفوع للنساء فى مصر
 تأليف: سلوى العنتري. إصدار: مؤسسة المرأة الجديدة

ومن الجدير بالذكر في دراسة العنتري أن في كل دول العالم تقريبَا عند إضافة عدد ساعات العمل المنزلي للعمل
 في السوق، نجد أن النساء تعملن عدد ساعات أكثر في المتوسط من الرجال ومع ذلك يقل نصيبهم من ناتج هذا العمل كثيرًا عن نصيب الرجال، فنصيب النساء من الثروة في أفريقيا والهند يتراوح ما بين ٢٠-٣٠% وفي الصين وأمريكا اللاتينية يتراوح ما بين ٣٠-٤٠%.

كما هو موضح في الأشكال أدناه أن نسبة العمل المنزلي في مصر قدرت وفقًا للعنتري بأكثر من ٤٧ مليار ساعة عمل في ٢٠١٢ وفقًا لحسابات الفرصة البديلة وهو ما يمثل ٣٤،٧% من الناتج المحلي الإجمالي، وتقوم النساء بأغلب هذا العمل (٣٠،١% من الناتج المحلي). أما وفقًا لطريقة أجر المثيل فتصل النسبة إلى ٢٢،٧% للعمل المنزلي ككل وحصة النساء منه ٢٠،٣%.

 
المصدر: دراسة تقدير قيمة العمل المنزلى غير المدفوع للنساء فى مصر
 تأليف: سلوى العنتري. إصدار: مؤسسة المرأة الجديدة



المصدر: دراسة تقدير قيمة العمل المنزلى غير المدفوع للنساء فى مصر
 تأليف: سلوى العنتري. إصدار: مؤسسة المرأة الجديدة


تزيد حدة هذه الظاهرة في دول العالم الجنوبي الذي يعتمد إنتاجها على العمالة الرخيصة في التقسيم الدولي  للعمل، حيث يُنظَر للعمل المنزلي المجاني كشرط مسبق للعمل الرخيص، فالمرتبات المتدنية التي عادة ما ترتبط بساعات عمل طويلة لن تكفي--ولن تبقى الأجور المتدنية تحت السيطرة--بدون الحصول على عمل مجاني في المنزل. 

تعتمد العديد من سلاسل التوريد العالمية على مثل هذه العمالة الرخيصة، ومن ثم عمل النساء في المنزل. هذه المنتجات الرخيصة ضرورية أيضًا للتحكم في الأجور في البلدان ذات الدخل المرتفع. 

لذلك ترفض العديد من المنظرات النسويات (خاصة في التقليد الاستقلالي الذاتي autonomist feminism الذي نشأ بشكل رئيسي في إيطاليا في سبعينات القرن العشرين والذي يعد من رواده مارياروزا دالاكوستا وسيلفيا فيديريتشي) اعتبار تبعية النساء مجرد ممارسة ثقافية أو حتمية بيولوجية، ويجادلن أن تبعية النساء ظاهرة اجتماعية  واقتصادية ولا يصح رؤيتها إلا في إطار منظومة مترابطة من الاستغلال الاقتصادي عن طريق انتزاع القيمة تربط بين عمل النساء في منزل ريفي في قرية صغيرة في أفريقيا والاستهلاك الكثيف في الأسواق العالمية في الشمال. 

من هذا المنطلق ترفض هذه المدرسة اعتبار العمل المنزلي عمل غير منتج، وتَجَسَد هذا الرفض بعد بضعة عقود في قيام العديد من الدول بحساب العمل المنزلي في الحسابات القومية، وتتصاعد الأصوات المطالبة بإضافته للناتج المحلي الإجمالي أو باستحداث مؤشرات اقتصادية جديدة أكثر تعبيرًا عن الواقع الاقتصادي الذي يحمل في طياته أنواع مختلفة من الإنتاج، بعيدًا عن تعريف الإنتاج الضيق المرتبط بإنتاج منتجات نهائية بغرض التداول في السوق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المؤشرات الاقتصادية كدلالات عائمة: مقدمة مفاهيمية

في ذكراه الخامسة، كيف دشن التعويم لعصر "الأمولة التابعة" في مصر؟

مقتطفات عن أموَلة الاقتصاد من كتاب "مُلّاك مصر"